تشكل قصيدة :” أيا أنا” باكورة الشاعر والاستاذ “ فؤاد لكرادي” في مسيرته الابداعية .
وقراءتي هاته تأتي من باب الفضول الأدبي عبر الوقوف عند بعض الدلالات والإيحاءات لما يبوح به جو القصيدة او ما حاول هو نفسه ان يضمنها من معان ودلالات .
جاءت القصيدة الشعرية على نظام القصائد الحداثية ذات نسق السطر الشعري وقد تكونت من خمسة عشر سطرا تتفاوت في الطول وتختلف في الروي والقافية.
اول ما يلفت الانتباه اليها انها جاءت بلا عنوان على الرغم من كونه أرضية انطلاق اي نص .
تفتتح القصيدة بنداء للبعيد وتنتهي بمنادى ميت اصبح جثة مجذومة، بين البداية والنهاية تتوالد مضامين ودلالات كبرى تؤثث جو القصيدة المشحون بالألم .
أول ملاحظة نسجلها و نحن نلج عالم النص هو النداء المفتتح به هو للبعيد ولكن منطوق النص يشي بأن المنادى والمنادى عليه واحد .
فهما يشكلان الصوت والصدى معا ، والأمر يكشف عمقا ذاتيا مصبوغا بالدالات لعل ابرزها الوحدة والفردانية ،المغلفة لأجواء النص الشعري .
فالمنادى عليه “اخرس مخصي الكلام “محنظ منبود لا روح فيه يتسكع في الطرقات والحانات، إنها صورة قاتمة تعززها الرغبة والعاطفة الجنسية المفقودة أو المنعدمة اللذة ، حتى وإن وجدت فتكون المحصلة النهائية العودة الى ما هو روحي باعتباره مسكنا .
نكتشف بعد لك استمرار عملية البحث والتقصي ، لنجد المخاطب قد تحجر وصار ميتا او تحول الى سكير عربيد .
اختتمت القصيدة بجو دراماتيكي ليصبح المنادى عليه جيفة يقتات عليه ابو الهول يحوم عليه الغراب دون ان يدفنه .
إن ما نلمسه في القصيدة هو قوة الألفاظ وفخامتها وكثرة التعبير الرمزي وتنوعه ـ الديني ، الطبيعي …ـ .والذي يتماهى مع الجو العام للنص حيث الكآبة والموت والغموض .
على سبيل المثال لا الحصر ” محنط النظرات ” في إشارة للجمود والسكون حيث تحضر في المخيال الفرعوني عملية تحنيط الموتى كآلية للحفاظ على المعالم الجسدية لأطول فترة ممكنة ، لكن الشاعر هنا اخرجها من جانبها الملموس الجسدي الى ما هو محسوس عاطفي .
فقدان البصر فقدان جمالية العالم ، وما يكرس الصورة قتامة هو وجود صورة لا تقل عن الاولى في معانيها العدمية حيث قال الشاعر ” ترسم شبق المومسات ” للدلالة على ان ان هدا المخصي المحنط يبحث عن أشياء صعبة التحقق وان تحققت فلا لذة فيها كيف له وهو المخصي غير قادر على الحركة ان يطلب لذة من امرأة لا تعرف اللذة ” المومس”
العدمية تتجلى في كون صاحبنا جسدا هجينا يقتات عليه ابو الهول ،ان حالة التناقض العدمي التي تعكسها القصيدة لا تتوقف عند هدا الاطار فقط اذ انجد صورة اخرى اكثر سوادا ” غراب هابيل يحوم حول جثة حبك المجذوم”
ان الشاعر وهو يكثف متناقضات المنادى افرد صورة رمزية طبيعية حبلى بالدلالات الدفينة من خلال استحضار غراب هابيل في اشارة لأول جريمة وقعت على الارض والتي ترسم الشاعر معالمها من القران الكريم ، مع تغيير في نمط الاسلوب و الطريقة فغراب القصيدة لم يكن مثل تلك الفاعلية كما هو الحال في النص القراني خصوصا مع وجود الاختلاف على مستىوى الجثة لأننا امام جثة مجذومة يصعب الاقتراب منها مخافة انتقال العدوى .
لم تخرج القصيدة عن درب ما خطه شعراء الحداثة على المستوى الايقاعي ذلك ان الشاعر اختار لها تفعيلة “فعولن ” حيث تصرف فيها بما تمليه التجربة الشعرية والنفسية اما بالزيادة او النقصان.
لعل سيكلوجية المنادى الميت في القصيدة تحكمت في روح الشاعر دون اغفال ما تزخر به القصيدة الشعرية من صور بلاغية وأساليب وموازنات صوتية وتكرارات جعلت القصيدة حافلة بالغنائية والجمالية .
لقد وفق الشاعر في قصيدته هاته في رسم واقع وان كان متخيلا غني بالمعاني والدلالات مما يعيشه الفرد من انفصام على مستوى الشخصية نتيجة الإكراهات والمشاكل اليومية .
حيث لمسنا في جو القصيدة نغمة الحزن واليأس والاغتراب الذاتي العاشق للعدم ، في واقع تبناه الشاعر عبر اسطر القصيدة ليؤثث كونا شعريا معتما يصعب الولوج الي فضاءاته دون زاد نغترف من خلاله ومضة ضوء تنير الدروب .
وفي الاخير ارجو اني قد وفقت في قراءتي هاته كما ارجو عمرا شعريا طويلا لصديقي ورفيقي فؤاد لكرادي،وإلى قراءة جديدة باذن الله